التعلم البنائي
ركزت المدرسة دهراً من الزمان على نقل المعارف إلى الطلاب ، وكان لذلك ما يبرره ، إذ خشى الأباء من اندثار تراثهم المعرفي ، فعمدوا إلى محاولة تخزينه في عقول أبنائهم ، وهكذا أوكل المجتمع إلى المدرسة هذه المهمة .
ومع بدايات ثورة المعلوماتية وانتشار أجهزة تخزين المعلومات برزت أهمية إيجاد ثقافة الإبداع وركزت المدرسة على تعليم مهارات اكتساب تلك الثقافة ، وترك وظيفة حفظ المعارف لآلات تصنع خصيصاً لهذا الغرض ، وهكذا ظهرت الحاجة إلى تعلم التعلم أي تعلم مهارات التعلم الذاتى . ولاشك أن المدرسة المعاصرة تقيم التعلم والتعليم على فلسفات مغايرة لتلك التي كانت تتبعها المدرسة فيما مضى ، فمدرسة اليوم تدعو لنشاط المتعلم قبل نشاط المعلم ، وإلى النظر إلى المتعلم الفرد أولاً ، ثم النظر إلى جماعات المتعلمين ، وتهتم بتوفير الدافعية للتعلم وإيجاد المثيرات اللازمة لذلك .
ويُفسر التعلم دائما وفق نظريات مستمدة من علم النفس التربوي ، وقد انتشرت نظريات ومدارس نفسية متعددة لتفسير التعلم ووصف كيفية حدوثه ، إلا أن المربين المعاصرين يشيرون إلى النظرية البنائية constructivsm theory متمسكين بأهميتها في تفسير التعلم .
وتشير الأدبيات إلى أن البنائية قد نشأت في مهدها كنظرية في المعرفة تسعى لتوضيح كيفية نمو المعارف البشرية ، إلا أنها أصبحت بعد ذلك نظرية في التعلم تفسر كيفية تعلم الفرد، وتشرح كيفية اكتسابه للمعاني Meanings ، وتنطلق هذه النظرية من قاعدة أساسية مؤداها أن الفرد يبني _ أو يبتكر _ فهمه الخاص أو معارفه بالاعتماد على خبراته الذاتية ويستخدم هذه الخبرات لكشف غموض البيئة المحيطة به، أو حل المشكلات التي تواجهه .
ويرى البنائيون أن احتكاك الفرد بالظواهر والأنشطة والأفكار يُعد مهماً لتذويب الأفكار الجديدة في بنائه الفكري الراهن، بل وغير الفكري أيضاً، إذ إن البنائيين المعاصرين تعددت مجالات اهتماماتهم متخطية بناء المعارف إلى مجالات أخرى مثل البنائية النفسية Psychological Constructivism والبنائية الاجتماعية Social Constructivism .
وبرغم التأكيد على كون البنائية نظرية في التعلم وليست نظرية في التعليم (التدريس) ، إلا أنها وضعت المربين أمام تحديات تتعلق بترجمة أفكار هذه النظرية إلى نظرية في التدريس تتضمن أسئلة حول أدوار المعلم والمتعلم المناسبة لمساعدة المتعلمين على بناء خبراتهم، ولعل من أبرز القواعد الموجهة لمثل تلك النظرية في التدريس الاهتمام بإنماء قدرة المتعلم على حرية اختيار أساليبه التعليمية، وإنماء مهاراته المتعلقة بالعمل الذاتي والتعاون مع الآخرين من أجل التعلم ؛ ويقود ذلك إلى خلاصة مؤداها أن البنائية قد فرضت فلسفة جديدة للتدريس والتعلم تغير من أدوار المعلمين وتتطلب سعيهم المستمر للنمو المهني من خلال فهمهم لمسلمات البنائية .
وتركز بعض الدراسات على أهمية التعلم في ضوء الفلسفة البنائية ، إذ ترى أن ذلك يؤدى على المدى الطويل إلى بناء ابستمولوجية مختلفة للفرد، ويعني مصطلح أبستمولوجية الفرد Personal Epistemology معتقدات الفرد حول ماهية التعلم وأهمية التفكير، وافتراضاته حول ماهية المعرفة ذاتها . ولاشك أن التدريس وفق هذه الفلسفة يؤدي إلى أشخاص يختلفون عن أولئك الذين أعدوا في ضوء الفلسفات التقليدية التي تعتمد على تلقين المعارف، ولعل تفحص ابستمولوجية الأفراد الذين يعدون في ظل طرق التدريس التقليدية يُظهر محدودية قدراتهم المتعلقة بالنمو الذاتي سواء في الجوانب المعرفية أو غير المعرفية، الأمر الذي يتعارض مع مسلمات عصر المعلوماتية الذي سبقت الإشارة إليه.
وعند اعتماد البنائية نظرية نفسية لتفسير التعلم، وأساساً رئيساً من الأسس النفسية لبناء المنهج المدرسي، فإنه من الضروري تغيير كثير من الممارسات التدريسية التي تشيع في المدرسة ، إذ إن افتراضات البنائية كأساس لتفسير التعلم سيكون لها آثارها على مفهوم المنهج وعناصره، من أهداف ومحتوى واستراتيجيات للتدريس والتقويم .
وبرغم أهمية الجهود التي قدمها عالم النفس الشهير جان بياجيه Jean Piaget في تأسيس نظرية البنائية، إلا أن هناك جهوداً مفيدة متوازية قدمها مربون آخرون أمثال جون ديوي John Dewey ، و دونالد شين Donald Schen ، وقد أسهمت هذه الجهود في تأسيس فكرة ضرورة التركيز على نشاط المتعلم الجسمي والعقلي، وضرورة الممارسة التي تعتمد على إعمال العقل والتفكير التأملي Reflective thought الهادف إلى الفهم وتوليد المعاني تأسيساً على مسلمة مؤداها أن الإنسان يمتلك قدرة طبيعية على المعرفة، كما أن لديه قدرة طبيعية على امتلاك طرق الحصول عليها، ومن ثم فإن المعلمين مطالبين بتصميم استراتيجيات تدريس تتسق وهذه المسلمة .
ولعلنا نخلص مما سبق إلى أن التدريس المعتمد على نشاط الطلاب يُعد التطبيق الفعلي للبنائية كأساس فلسفي ونفسي للمنهج، وقد توصلت بعض الدراسات إلى ضرورة تصميم الأنشطة التربوية وفق قواعد عامة تشمل تشجيع الاكتشاف ودراسة أساليب معالجة المشكلات اليومية ، والبعد عن الأشكال التقليدية لتصميم التعليم، التي تهتم بتأكيد المعارف ، وبلغة أخرى ، فإن التركيز على التفكير والاستقصاء والنمو الذاتي في ميدان أساليب البحث ، والتعلم من أجل مزيد من التعلم، وتوظيف ما نعرفه لاكتشاف مالا نعرفه و يٍعد محور استراتيجيات التعلم البنائى .
ولذا كان من الضروري تأسيس قاعدة تربوية تقضي بإيجاد استراتيجيات التدريس التي تشجع الطلاب بصورة مستمرة على اكتشاف المعارف وبنائها، والرؤية التعددية _ وليس الأحادية _ للمعاني.
وعليه فإن استراتيجيات التعلم وفق الفلسفة البنائية لابد أن تتضمن نشاطات يدوية مفتوحة النهايات Open-ended hands on activities ، كما تسمح بنشاطات متنوعة لطرح الأسئلة ، وتتضمن استخدام التعلم التعاوني Co.- Operative Learning, ودورة التعلم Learning Cycle كاستراتيجيات تعتمد على المشاركة بعمق في متطلبات وأحداث عملية التعلم .
و يشير بعض الباحثين إلى أهمية التفكير في التعلم البنائي ، حتى أنهم يعرفون التعلم بأنه اكتساب مهارات التفكير التي تمكن الطالب من التقدم بوعي وثقة إلى مستويات أكاديمية جديدة ولعل ذلك يعنى التركيز على استراتيجيات التدريس التي تنمى التفكير وتركز عليه .
وخلاصة القول أن التعلم في الفلسفة البنائية يتطلب نشاط المتعلم ، ويحتوى على محاور للتركيز على بيئة التعلم التي تتضمن مشكلات حقيقية دائمة، ووسائل لتوجيه الطالب أثناء اقتحامه تلك المشكلات، وهذا يتطلب رؤى جديدة من قبل مخططى التدريس ليهتموا بالنمو الذاتي للمتعلمين وتوفير بيئة التعلم النشطة اللازمة لذلك .
وفي ضوء ذلك يمكن اعتماد التدريس البنائى الذي يقوم على بناء استراتيجيات تركز على التعلم أكثر مما تركز على التعليم ، كما تركز على تعميم مواقف التعلم الفردي ، أو التعلم في مجموعات صغيرة وليس التعلم الجمعي في مجموعات كبيرة .
وتعتمد استراتيجيات التدريس البنائى على ممارسة الطلاب الاستقصاء لحل مشكلات حقيقية في البيئة ، كما قد تعتمد على أساليب مثل المناقشة والعصف الذهني والتعلم التعاوني وغيرها من الاستراتيجيات التي لا تقدم المعرفة جاهرة للطلاب ، و إنما تستحثهم على العمل النشط الدؤب لبناء تلك المعرفة بذاتهم وداخل ذواتهم .
وتتطلب استراتيجيات التدريس البنائى بناء مهارات التعلم الذاتى لدى الطلاب ، واضطراد نمو هذه المهارات مع اضطراد تقدمهم في السلم التعليمي ، ونقترح تقسيم استراتيجيات التدريس إلى ثلاث مراحل وفقاً للتقسيم الحالي للسلم التعليمي كما يلي :
(1) استراتيجيات تدريس ثقافة الاتصال ، وتستمر طوال المرحلة الابتدائية ، وتهتم ببناء قدرات الطلاب على الاتصال واختبار تلك القدرات في مواقف متنوعة للحصول على المعارف وتوظيفها في مواقف مختلفة ، وتركز استراتيجيات التدريس في هذه المرحلة على المهارات اللغوية الأساسية والمهارات الرياضية والثقافة العلمية الأساسية أيضاً ، بالإضافة إلى استخدام الوسائل التقنية للحصول على المعرفة .
(2) استراتيجيات تدريس التفكير و البناء المعرفي ، وتستمر طوال المرحلة المتوسطة وتهتم بتدريب الطلاب على التفكير الناقد ، و على اكتشاف المعارف وجمعها من مصادرها ،كما تهتم بإبراز أهمية البناء المعرفي للبشرية مادة وطريقة .
(3) استراتيجيات تدريس البحث والاكتشاف ، وتستمر طوال المرحلة الثانوية ، وتركز على وضع الطلاب في مشكلات حقيقية ، يمارسون خلالها مهارات التعلم الذاتى للبحث والاستقصاء .
وتأسيساً على ما سبق ، فقد يكون من المناسب تحديد المهام أو الأدوار المطلوبة من المعلم في استراتيجيات التدريس وفقاً لنظرية البنائية فيما يلي :
1. توفير بيئة صفية آمنة فيزيائياً وعاطفياً يعبر فيها الطالب عن رأيه بحرية تامة ، بعيداً عن الخوف من الإهمال أو الاستهزاء أو الانتقاد .
2. توظيف الخبرات السابقة للطلاب في المواقف العملية _ التعليمية الجديدة وربطها بالتعلم الجديد لمساعدة الطالب في بناء الخبرات الجديدة المكتسبة ، وعليها ، بشكل ينتج تعلماً متميزاً مدمجاً بشكل سليم في البناء العقلي Cognetive Structure للطالب .
3. تقديم مواقف وخبرات ومشكلات حسية وغير حسية ،حقيقية وغير حقيقية تستثير الطلاب وتحفزهم على التفكير الإيجابي في الموضوع ، والعمل جسمياً وعقلياً لإيجاد الحلول المطلوبة وحلول أخرى أبعد منها .
4. إثراء بيئة الصف والمدرسة بالمثيرات المتنوعة التي تشجع الطالب على العمل والبحث عن المعرفة وتوليدها وبنائها وتوظيفها .
5. توفير خبرات تعلمية وفرصاً تعلمية داعمة تتطلب من الطالب العمل العقلي والجسدي ضمن الفرق والمجموعات المتعاونة كما تتطلب منه القيام بالعمل مستقبلاً معتمداً على قدراته الذاتية .
6. توفير فرص العمل الذاتي للطالب بتكليفه بالعمل في واجب أو مشروع ، بحيث يعمل ويبحث عن المعرفة من مصادر متنوعة داخل المدرسة وخارجها ، في المجتمع المحلي لكل ما يملكه من مصادر ويمكن أن يتجاوز مجتمعه إلى مجتمعات أخرى مستفيداً من التكنولوجيا المتقدمة كشبكة الإنترنت .
7. توفير مصادر تعلم يمكن للطالب أن يصل إليها وأن يستخدمها .
8. تنظيم الخبرات التعلمية بحيث تساعد الطالب في بناء خبرات التعلم بشكل يساعد الطالب نفسه على التفكير النقدي / التأملي Reflective Thinking في ممارسته التعلمية لاكتشاف الأخطاء وتصويبها.
9. توفير الأنشطة التعلمية وتغيير الأساليب التدريبية بما يلبي حاجات الطلاب ويراعي الفروق الفردية بينهم .
10. تقييم تقدم التعلم (Learning progress) تقييماً تحليلياً مرحلياً وختامياً ، وتوظيفه لتقديم تغذية راجعة بنائية ( Constructive feed back ) للطلاب تساعد في توجيه التعلم وتطويره .
11. توفير أنشطة صفية وغير صفية تنمي لدى الطلاب مهارات البحث والاكتشاف والمغامرة العلمية للوصول إلى المعرفة أينما كانت ومن ثم " كيف يستخدمها " في تعليم آخر أبعد أو وظيفياً في الحياة .
12. توفير بيئة تعليمية تنمي مهارات مرغوبة في الطالب مثل :.
¨ العمل الجماعي .
¨ العمل بروح الفريق .
¨ القدرة على حل المشكلات .
¨ التأمل ( التفكير الناقد ) Reflective thinking
¨ الدعم المتبادل الإيجابي Positive Interdependance
¨ تعلم كيف يتعلم .
¨ التقييم الذاتي .
13. توجيه الطلاب بشكل غير مباشر ، بعيداً عن النصح المباشر الذي قد يثير ضجر الطالب ، ويولد فيه اتجاهات سلبية نحو المعلم والتعليم .
14. تعرف خصائص الطلاب وتوفير خبرات وأنشطة ومواقف تعلمية تتفق وهذه الخصائص وتطورها بشكل يجعلها أكثر ملاءمة لبناء مواقف تعلمية جديدة تقود إلى أبواب جديدة للتعلم .
15. اختيار أساليب تعليمية _ تعلمية يكون دور المعلم فيها محدوداً و مقتصراً على كل ما سبق ، وعلى إدارة التعلم تقديم التعزيز المتنوع الداعم الذي يثير دافعيه الطلاب للبحث والاستقصاء والمغامرة .
هذا ويمكن تلخيص النظرة الحديثة إلى استراتيجيات التعليم والتعلم وفق النظرية البنائية في النقاط التالية :
1. في حين ينظر إلى المعلم على أنه هو القائد والموجه والمنظم للخبرات التعليمية والمسهل لعملية التعلم، فإن دور المتعلم يعتمد على النشاط والحيوية والإيجابية نحو التعلم .
2. التركيز على نشاط المتعلم وتوجيه هذا النشاط نحو المزيد من التعلم .
3. أهمية الدافعية للتعلم والاستفادة من المثيرات الداخلية والخارجية اللازمة لزيادة تلك الدافعية نحو التعلم .
4. تشجيع المتعلم على الاكتشاف ودراسة أساليب معالجة المشكلات اليومية .
5. التركيز على المستويات العليا من التفكير والفهم القائم على التحليل والنقد بدلاً من التركيز على الحفظ والتذكر .
6. أهمية الخبرات والمعارف السابقة للمتعلم في بناء الخبرات الجديدة وتنظيم التعلم .
7. أهمية النشاط الصفي وغير الصفي التي يكون المتعلم محوره والذي يساعد على رفع مستوى التعلم .
8. أهمية المراوحة بين التعلم الفردي والتعلم التعاوني .
9. أهمية إكساب المتعلمين مهارات التفكير المختلفة والتفكير الناقد بشكل خاص .
10. التركيز على الأساليب التي تشغل حماس المتعلمين وتستحثهم على بناء معارفهم بأنفسهم وداخل ذواتهم مثل أساليب المناقشة والعصف الذهني وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق